لعله لا يتمارى أحدٌ -اليوم- في أن علة العلل وأصل الداء في أمتنا العربية والإسلامية، هو نسيانهم الدائم المتكرر -عن قصدٍ أو غير قصدٍ- لكتابهم الإلهي الكريم الذي صنع منهم أمةً واحدةً قادت العالم، وأنارته، وعلمته قيم العدل والأخوة والمساواة، وكيف يمتلك عناصر القوة المادية والمعنوية. في هذا الكتاب المبين -الذي هو حجة الله على المسلمين في الدنيا والآخرة- آيةٌ محكمةٌ صريحةٌ تنهى المسلمين والقائمين على أمورهم، ومن بينهم العلماء -الذين هم ورثة الأنبياء- تنهاهم -جميعًا- عن التنازع والتفرق والاختلاف، وتحذرهم من الفشل والوهن والهوان الذي ينتظرهم كنتيجةٍ حتميةٍ مؤكدةٍ إن هم خرجوا على هذا «القانون الإلهي» الذي عرفت قيمته أممٌ أخرى استعصمت به وتوحدت مصالحها الكبرى من حوله رغم تباينها؛ لغةً وعرقًا وثقافةً ومذهبًا. هذه الآية هي قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[الأنفال: 46] لننظر من حولنا: هل نجد لهذه الحروب التي تأكل الأخضـر واليابس من سببٍ غير التنازع وما أدى إليه من فشلٍ وذهاب ريحٍ حذرنا منهما القرآن الكريم؟! ولننظر: كيف أن الحرب العالمية الأولى لم يزد عمرها عن سنواتٍ أربع، والحرب العالمية الثانية بدأت وانتهت في غضون سنواتٍ ست؛ فكم من سنةٍ مضت –الآن- على الحرب التي اندلعت في منطقتنا ولم يخب لها أوارٌ حتى الآن، وكلما أوشكت أن تكون وميضًا، بعثت من جديدٍ لتكون أذكى ضرامًا مما كانت عليه؟! وإنه وإن كانت الفرقة هي أصل الداء وعلته؛ فإن أمانة الكلمة تستوجب أن أضم لهذا السبب سببًا آخر يستغل جو الاختلاف أسوأ استغلالٍ. وهو: الأطماع العالمية والإقليمية التي لا تزال تفكر بعقلية المستعمرين، أو عقلية الحالمين باستعادة ماضٍ قام على نزعة التغلب العرقي والتمدد الطائفي، وإن كانت هذه الأطماع المريضة لا يقرها الدين ولا الخلق الإنساني، وتأباها المواثيق الدولية، ويرفضها شرفاء العالم المتحضر وحكماؤه. إن هذا الداء الذي أصيبت به الأمة أخيرًا، وأطمع فيها أعداءها والمتربصين بها، لم يؤت ثماره المــرة –فقط- فيما تركه من تقهقرٍ وتخلفٍ على جميع الأصعدة، وإنما كان له تأثيره البالغ السوء في فهم شريعة الإسلام واضطراب هذا الفهم في أذهان الناس، وبخاصةٍ الشباب منهم. هذا الأثر الذي تبلور –أخيرًا- في ظاهرة الغلو والتشدد والتطرف، ثم الإرهاب الذي استطاع -بكل مرارةٍ وألمٍ- أن يقدم هذا الدين الحنيف للعالم في صورة الدين المتعطش للقتل والذبح والدماء، وبصورةٍ همجيةٍ وحشيةٍ لم يعرفها من قبل تاريخ المسلمين الذي بلغ عمره –الآن- ما يقرب من خمسة عشر قرنًا من الزمان. ولو أن أعدى أعداء المسلمين أراد أن يكيد للإسلام وينفر منه ويصد الناس عنه، لما استطاع أن يبلغ عشـر معشار تأثير صورةٍ واحدةٍ من صور الذبح والقتل والتفجير في الآمنين التي تبثها بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عمدًا وإصرارًا على تقديم دين الرحمة للعالم في هذه الصورة البشعة المنفرة، وأنها الصورة التي يجب على العالم –الآن- أن يتصور الإسلام من خلالها! ووراء ذلك من خيانة التاريخ والافتراء على الحق والإنصاف ما يكون –عادةً- وراء الأكمة من أيادٍ خفيةٍ تعبث بمصائر الشعوب ومقدرات الأوطان.