إنَّ مُصطلَح «الأقلِّيَّاتِ المُسلِمة» وافد على ثقافتنا الإسلاميَّة، وقد تحاشاه الأزهر في خطاباته، وفيما صدر عنه من وَثائق وبيانات؛ لأنَّه مصطلح يحمل في طيَّاته بذور الإحساس بالعُزْلة والدُّونيَّة، ويمهِّد الأرض لبُذور الفتن والانشقاق، بل يصادِرُ هذا المُصطلح –ابتداءً- على أيَّةِ أقلِّيَّةٍ كثيرًا من استحقاقاتها الدِّينيَّة والمدنيَّة. وفيما أعلم: فإنَّ ثقافتنا الإسلاميَّة لا تعرف هذا المصطلح، بل تنكره وترفضه، وتعرف بدلًا منه معنى "المواطنة الكاملة" كما هو مقرَّر في "وثيقة المدينة المنورة". إنَّ المواطَنةَ -في الإسلام- حقوق وواجبات ينعم في ظلالها الجميع، وَفْق أُسُس ومَعايِيرَ تُحقِّق العدل والمساواة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: 90] فلهم ما لنا وعليهم ما علينا. فالمواطِن المسلِم في بريطانيا -مثلًا- هو مُواطِنٌ بريطانيٌّ مُواطَنةً كاملة في الحقوق والواجبات، وكذلك المسِيحيُّ المصريُّ هو مواطن مصريٌّ مواطنة كاملة في الحقوق والواجبات، ولا مَحَلَّ -مع هذه المواطَنة الكاملة- لأن يوصف أيٌّ منهما بالأقلِّيَّة الموحية بالتَّميِيز والاختلاف في معنى "المواطَنة". وفي اعتقادي: أنَّ ترسيخ "فقه المواطنة" بين المسلمين في أوربا -وغيرها من المجتمعات المتعَدِّدة الهُوِيَّات والثَّقافات- خُطْوةٌ ضروريَّة على طريق "الاندماج الإيجابيِّ" الَّذي دعونا إليه في أكثرَ من عاصمة غربيَّة؛ فهو الَّذي يحفظ سلامة الوطن وتماسُكه، ويرسِّخ تأصيل الانتماء الَّذي هو أساس الوَحْدة في المجتمع، كما يَدْعَم قبول التنوُّع الثقافيِّ والتَّعايشِ السِّلْمي، ويقضي على مشاعر الاغتراب التي تؤدِّي إلى تشتُّت الولاء الوطنيِّ، وتذبذُب المغترب بين وطن يعيش على أرضه ويقتات من خيراته، وولاء آخر غريب يتوهَّمه ويحتمي به؛ فرارًا من شعوره بأنَّه فرد في أقلية مهدَّدة. ولا مفرَّ لنا -في ظلِّ أنظمة الحكم المعاصِرة- من أن نعمل على ترسيخ فقه المواطنة في عقول المسلمين وثقافاتهم، فهو السَّدُّ المَنيع أمامَ الذَّرائع الاستعماريَّة الَّتي دأبت على توظيف الأقلِّيَّات في الصِّراعات السِّياسيَّة وأطماع الهيمنة والتَّوسُّع، وجعلت من مسألة "الأقلِّيَّات" رأس حربة في التَّجزئة والتَّفتيت اللَّتين يعتمد عليهما الاستعمار الجديد. إنَّ المفهوم الحقيقيَّ للمُواطَنة لا يتوقَّف عند اختلاف دين أو اختلاف مذهب، فالكلُّ متساوُون في الحقوق والواجبات، والجميع سواسية أمام القانون في الدَّولة، وعلى الجميع أن يدافعوا عن هذا الوطن ويتحمَّلوا المسئوليَّة الكاملة