لقد تابع القاصي والداني التفجيرات الغادرة التي استهدفت كنيسة مارجرجس بطنطا والكنيسة المرقسية بالإسكندرية، وراح ضحيتهما برآء مسالمون كانوا يؤدون صلواتهم، مما خلف في قلوب المسلمين -قبل المسيحيين- آلامًا وأحزانًا ليس من السهل تجاوزها ولا نسيانها، وهذه الجريمة الوحشية ليست -بكل تأكيد- إيذاءً للمسيحيين في مصر، بل هي إيذاء للمسلمين في شتى بقاع العالم، وإلى نبي الإسلام. الأديان السماوية -أولًا وأخيرًا- ليست إلا رسالة سلام إلى البشر، بل أزعم أنها رسالة سلام إلى الحيوان والنبات والطبيعة بأسرها. وعلينا أن نعلم أن الإسلام -كدين- لا يبيح للمسلمين أن يشهروا السلاح إلا في حالة واحدة؛ هي دفع العدوان عن النفس والأرض والوطن، ولم يحدث قط أن قاتل المسلمون غيرهم؛ لإجبارهم على الدخول في دين الإسلام، بل إن الإسلام لا ينظر لغير المسلمين من المسيحيين واليهود من منظور العداء والتوتر والصراع، بل من منظور المودة والأخوة الإنسانية. لا يمكن لدينٍ يقوم على نصوص محكمة -كالتي ذكرناها- أن يوصف بالعنف والإرهاب والقتل، ومن الظلم البين -بل من الخطأ في الرأي- أن تحاكم الأديان إلى تجاوزات القلة الجاهلة من أبنائها من الذين عموا وصموا وضلوا وأضلوا. لا مفر لنا -الآن- من أن يعلو صوت الفقه الصحيح الذي درج عليه المسلمون قرونًا متتالية وأعمارًا متطاولة، ولا مفر من أن ينزل العلماء للواقع، وأن يمسكوا بأيديهم أزمة الفتوى في الدين. ولا بد لعلماء المسلمين من تحمل مسئولياتهم في توضيح حقيقة هذا الدين ودعوته الواضحة للأخوة والتعارف والسلام بين الناس شرقًا وغربًا، ولتحريم دماء الناس وأعراضهم وأموالهم تحريمًا لا نكاد نجد له نظيرًا في غير هذا الدين، فالإسلام منفرد في باب تشديد العقوبة على القتل العمد في الدنيا قبل الآخرة. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: كيف صور هذا الدين الذي يدور على مفهوم الرحمة ومعناها -وجودًا، وغايةً، وهدفًا- في صورة العنف والقتل وإرهاب الآمنين؟! إن هذا الدين الحنيف ما كان ليوصم بهذا الإفك المفترى لولا ما ابتليت به هذه الأمة في الآونة الأخيرة بنابتة سوء من أبنائها وشبابها، يقترفون جرائم القتل، والتحريق، والتمثيل بجثث المسلمين وغير المسلمين، ويظنون أنهم -بجرائمهم هذه- يجاهدون في سبيل الله ويحيون دولة الإسلام، وقد كفروا مَن خالفهم من المسلمين ولم يعتنق أفكارهم الشاذة ومذاهبهم المنحرفة التي يرفضها الإسلام ويبرأ منها وينكرها أشد الإنكار. لقد حرَّف مفهوم الجهاد عند هذه التنظيمات المسلحة المتطرفة والطائفية، وراحوا يقتلون من يشاءون؛ زعمًا منهم بأنه جهاد، وأنَّهم إن قتلوا فهم شهداء في الجنة. وهذا من أشنعِ الأخطاء في فهم شريعة الإسلام؛ لعدة أسبابٍ: فأولًا: لم يشرع الجهاد في الإسلام إلَّا للدفاع عن النفس والدين والوطن، ونحن نحفظ عن شيوخنا في الأزهر: «أن علة القتال العدوان». وثانيًا: إعلان الجهاد ومباشرته لا يجوز أن يتولاه أحدٌ إلا ولي الأمر، ولا يجوز لأفرادٍ أو جماعاتٍ أن تتولَّى هذا الأمر بمفردها مهما كانت الأحوال والظروف، وإلا كانت النتيجة دخول المجتمع في مضطرب الفوضى، وهدر الدماء، وهتك الأعراض، واستحلال الأموال؛ وهو ما نعانيه –اليوم- من جراء هذا الفهم الخاطئ المغلوط لهذه الأحكام الشرعية. ومن هنا: حرم الإسلام الاعتداء على النفس الإنسانية -أيا كانت ديانتها أو اعتقادها- يقول تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]، ومن هنا أيضًا: انفتح الإسلام على أبناء الأديان الأخرى، لدرجة الاختلاط بالزواج والعيش المشترك في بيتٍ واحدٍ وتحت سقفٍ واحدٍ؛ وفي هذا إقرارٌ من الإسلام بالعيش الواحد بين الأديان، والتَّداخل الأسري بين أبناء الأديان أيضًا. والأزهر الشريف -وهو يتحمل مسؤولية البلاغ والبيان أمام الله تعالى يوم القيامة- لا يألو جهدًا في التنبيه المستمر إلى انحراف هذه الأفكار، وأنها ليست من الإسلام والقرآن والشريعة -لا في قليل ولا كثير- وأن هؤلاء مضللون في تنكبهم هدي الله ورسوله، وأنهم -من حيث يعلمون أو لا يعلمون- أساءوا إلى الإسلام بأكثر مما أساء إليه أعداؤه، وشوهوا صورته السمحة النقية، وقدموا بعبثهم بالإسلام صورًا مغشوشة شائهة استغلها أعداء هذا الدين السمح والمتربصون به. ولا يزال الأزهر ينادي هؤلاء الشباب الذين غررت بهم هذه التنظيمات الإرهابية باسم الدين وهو منهم براء، ويطمع أن يفيقوا من سكرتهم، وأن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يعلموا أن الغلو الذي أدى بهم إلى هذه الفتن العمياء، قد حذرنا منه رسول الله في قوله: «يا أيُّها الناسُ، إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنه أهلكَ مَن كان قبلكم الغلو في الدين». وفي قوله: «هَلَكَ المتنطعونَ». أي: المغالون والمتجاوزون في الأقوال والأفعال.