التعددية بين الناس واختلافهم طبيعة قررها القرآن الكريم، ورتب عليها قانون العلاقة الدولية في الإسلام، وهو «التعارف» الذي يستلزم –بالضرورة- مبدأ الحوار مع من نتفق ومن نختلف معه، وهذا ما يحتاجه عالمنا المعاصر -الآن- للخروج من أزماته الخانقة. ومن هنا: كان من الصعب على المسلم أن يتصور صب الناس والأمم والشعوب في دين واحد أو ثقافة واحدة؛ لأن مشيئة الله قضت أن يخلق الناس مختلفين حتى في بصمات أصابعهم، يقول القرآن: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتلفِينَ﴾ [هود: 118]، والمؤمن بالقرآن لا يرتاب في أنَّه ليس في إمكان قوة ولا حضارة أن تبدل مشيئة الله في اختلاف الناس، وينظر إلى النظريات التي تحلم بجمع الناس على دين واحد أو ثقافة مركزية واحدة، نظرته إلى أحلام اليقظة أو العبث الذي يداعب أحلام الطفولة! ويمكن -هنا- أن ألفت النظر إلى أمرين لا يمكن تفاديهما في أي تلاقٍ بين الشرق والغرب، وعلى أي مستوًى جاد من مستويات هذا التلاقي: الأمر الأول: الآية القرآنية التي يرددها المسلمون -رجالًا ونساءً وأطفالًا؛ صباح مساء- بل كثيرٌ من المثقفين والمفكرين الغربيين يحفظون فحواها عن ظهر قلب من كثرة ما ترددت على مسامعهم في محافل الحوار ومنتدياته؛ هذه الآية هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. والمسلمون –جميعًا؛ لا يشذ منهم أحدٌ- يفهمون من الآية أن التعارف المنصوص عليه في الآية الكريمة هو الهدف أو الغاية الإلهية العليا التي خلق الله الناس من أجلها. و«التعارف» يعني: التعاون وتبادل المنافع، وليس الصراع، ولا الإقصاء، ولا التسلط. وإذا كان لقاء التعارف البشري هو القانون الإلهي للعلاقات الدولية بين الناس؛ أفلا يعني هذا: أنه أمر يمكن تحقيقه إذا ما خلصت النوايا وصحت العزائم؟ وقد تعجبون -أيضًا- إذا علمتم أن شيوخ الأزهر في أربعينيات القرن الماضي سبقوا الجميع في التنبيه على هذا الحل الذي لا حل غيره، حيث نادى الشيخ محمد مصطفى المراغي (ت 1945م)-شيخ الأزهر في ذلكم الوقت- بالزمالة العالمية بين الأمم كافة؛ لاحتواء صراعات الأمم والشعوب، وذلك في كلمته أمام مؤتمر عالمي للأديان عقد بلندن سنة (1936م). ثم جاء بعده -بعشر سنين- الشيخ محمد عرفة(ت 1973م)، الذي كتب في مجلة الأزهر في عددها العاشر لسنة (1946م) مقالًا نادى فيه بضرورة التعاون بين الإسلام والغرب، وقد دفعه لكتابة هذا النداء ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية –آنذاك- من اختراع القنبلة الذرية والأسلحة الفتاكة، وقد حذر من فناء العالم كله إذا استعمل المحاربون هذه المخترعات. وانتهى إلى أنه لا مفرَّ من التقريب بين الشعوب، ومن إزالة أسباب الخلاف والبغضاء، ومن أن تصبح الأرض كلها مدينة واحدة، وأن يكون سكانها –جميعًا- كأهل مدينة واحدة. وقد عوَّل الشيخ –كثيرًا- في دعوته لهذا التعاون العالمي على وجوب أن يفهم الغرب الإسلام، وأن يفهم الإسلام مدنية الغرب، وأنهما إذا تفاهما زال ما بينهما من سوء ظن، وأمكن أن يعيشا –معًا- متعاونين، يؤدي كل منهما نصيبه من خدمة الإنسانية. ودعا علماء المسلمين إلى ضرورة أن يبينوا مدنية الغرب على حقيقتها؛ ليحلَّ التعارف محل التناكر، ويحل السلام محل الخصام. إن الدعوة إلى الله في دين الإسلام محددةٌ بأن تكون بطريق الحكمة والحوار الهادئ الذي لا يجرح الآخر ولا يسيء إليه أو إلى عقيدته، ويبرأ الإسلام من نشر عقيدته بقوة السلاح أو الإكراه أو الضغوط -أيا كان نوعها- حتى لو كانت ضغوطًا في شكل إغراءٍ بالمال أو الجاه أو شراء القلوب والعقول؛ لأنه كما يقرر القرآن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، كما يقرر: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: 29] ودور نبي الإسلام -كما حدده له القرآن الكريم- هو دور المبلغ والموضح لطريق الله، وأنه لا يسيطر على الناس ولا يكرههم، وإنما يدعهم لله بعد أن يبين لهم طريق الحق وطريق الضلال، قال تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]. والناس بالنسبة للمسلم إما أخٌ في الدين أو نظيرٌ في الإنسانية، وأن المسلم -فيما يقرر نبي الإسلام- هو «مَن سَلِمَ الناس من لسانِه ويدِه». أي: هو من يسالم الناس، ولا يلحق بهم أذًى لا بلسانه ولا بيده. ويحرم الإسلام إلحاق الأذى بأبناء الأديان السماوية بوجهٍ خاص، لدرجة أن المسلم الذي يؤذي أهل الكتاب يخاصمه نبي الإسلام يوم القيامة، كما يتبرأ الله ورسوله منه في الدنيا والآخرة. إن الأزهر الشريف يبذل جهودًا دولية لترسيخ السلام والأمن حول العالم، ويحرص على الانفتاح والحوار مع جميع المؤسسات الدينية العالمية. وها نحن هذا الأسبوع نعقد مؤتمر الأزهر العالمي للسلام بحضور عدد من القيادات الدينية من أنحاء العالم، حيث يهدف المؤتمر إلى توجيه رسالة مشتركة للعالم كله بأن رموز وممثلي الأديان المجتمعين في رحاب الأزهر الشريف يجمعون على الدعوة إلى السلام بين قادة الأديان وجميع المجتمعات الإنسانية، ويؤكدون -انطلاقًا من الثقة المتبادلة بينهم- على دعوة أتباع الأديان للاقتداء بهم، والعمل بهذه الدعوة يدًا واحدةً من أجل نبذ كل أسباب التعصب والكراهية، وترسيخ ثقافة المحبة والرحمة والسلام والحوار بين الناس. أسأل الله عز وجل أن يكون هذا المؤتمر خطوة حقيقية تسهم -بشكل فاعل- في العمل على تحقيق السلام للبشرية جمعاء.