تحيةً خالصةً من الأزهر الشريف ومن مجلس حكماء المسلمين لحضرة البابا فرنسيس، ممزوجةً بالشكر لاستجابته الكريمة وزيارته التاريخية لمصر وللأزهر الشريف. هذه الزيارة التي تجيء في وقتها تلبيةً لنداء الأزهر، وللمشاركة في مؤتمره العالمي للسلام، هذا السلام الضائع الذي يبحث عنه شعوبٌ وبلاد وبؤساء ومرضى، وهائمون على وجوههم في الصحراء، وفارون من أوطانهم إلى أوطانٍ أخرى نائيةٍ لا يدرون أيبلغونها أم يحول بينهم وبينها الموت والهلاك والغرق والأشلاء والجثث الملقاة على شواطئ البحار، في مأساةٍ إنسانيةٍ بالغة الحزن، لا نعدو الحقيقة لو قلنا: «إن التاريخ لم يعرف لها مثيلًا من قبل»! ولايزال العقلاء وأصحاب الضمائر اليقظة يبحثون عن سببٍ مقنع وراء هذه المآسي التي كتب علينا أن ندفع ثمنها الفادح من أرواحنا ودمائنا، فلا يظفرون بسببٍ واحدٍ منطقي يبرر هذه الكوارث التي أناخت مطاياها بساحات الفقراء واليتامى والأرامل والمسنين، اللهم إلا سببًا يبدو معقولًا ومقبولًا، ألا وهو تجارة السلاح وتسويقه، وضمان تشغيل مصانع الموت، والإثراء الفاحش من صفقاتٍ مريبةٍ، تسبقها قراراتٌ دوليةٌ طائشةٌ. ومما يثير الإحباط أن تحدث هذه الأزمة الحادة في القرن الحادي والعشرين، قرن التحضر والرقي وحقوق الإنسان، والتقدم العلمي والتقني الهائل، وعصر مؤسسات السلام ومجالس الأمن، وتجريم استخدام القوة والتهديد بها في العلاقات الدولية، بل عصر المذاهب الاجتماعية والفلسفات الإنسانية، والتبشير بالمساواة المطلقة ومجتمع الطبقة الواحدة، والحداثة اللادينية، وما بعد الحداثة، إلى آخر هذه المنجزات الاجتماعية والفلسفية التي تميز بها عصرنا الحديث. والسؤال المحوري في هذه المفارقة هو: • كيف أصبح السلام العالمي –الآن- مع كل هذه الإنجازات هو الفردوس المفقود؟ • وكيف شهد عصر حقوق الإنسان من الأعمال الهمجية ما لم يشهده عصرٌ من قبل؟ والإجابة -التي أعتقد أن حضراتكم توافقونني عليها- هي تجاهل الحضارة الحديثة للأديان الإلهية وقيمها الخلقية الراسخة التي لا تتبدل بتبدل المصالح والأغراض والنزوات والشهوات. وأولها قيمة الأخوة والتعارف والتراحم بين الناس، وتذكيرهم الدائم بأن الخلق كلهم عيال الله، وأن أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وذلك حتى لا يتحول العالم إلى غابةٍ من الوحوش الضارية يعيش بعضها على لحوم بعضٍ. ولا حل فيما يؤكد عقلاء المفـكرين في الغرب والشرق إلا في إعادة الوعي برسالات السماء، وإخضاع الخطاب الحداثي المنحرف لقراءةٍ نقديةٍ عميقةٍ تنتشل العقل الإنساني مما أصابه من فقر الفلسفة التجريبية وخوائها، وجموح العقل الفردي المستبد وهيمنته على حياة الأفراد، وألا يكون طور ما بعد الحداثة قاصرًا على مجرد تجميل هذه المذاهب وترقيعها بفلسفات الخيال والوجدان. وفيما يرى الفلاسفة والمؤمنون فإنه لا مفر من إعادة صياغة كل ذلك في سياق المؤاخاة والتراحم أولًا، وهذا السياق هو بمثابة ترياقٍ يضخ الحياة في المذاهب الفلسفية والقوالب العلمية والعملية الجامعة، وأن هذا الترياق لا يوجد إلا في صيدلية الدين وحده. وفي اعتقادي: أن الأرض –الآن- أصبحت ممهدة لأن تأخذ الأديان دورها في إبراز قيمة «السلام» وقيمة العدل والمساواة، واحترام الإنسان؛ أيا كان دينه ولونه وعرقه ولغته. وفي القرآن الكريم -الذي يتلوه المسلمون صباح مساء- نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[الإسراء: 70]كما نقرأ -في باب التَّعارف والتَّراحم- قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]. ولكن قبل ذلك يلزمنا العمل على تنقية صورة الأديان مما علق بها من فهومٍ مغلوطةٍ، وتطبيقاتٍ مغشوشةٍ، وتدينٍ كاذبٍ يؤجج الصراع ويبث الكراهية، ويبعث على العنف، وألا نحاكم الأديان بجرائم قلةٍ عابثةٍ من المؤمنين بهذا الدين أو ذاك. فليس الإسلام دين إرهابٍ بسبب أن طائفة من المؤمنين به سارعوا لاختطاف بعض نصوصه وأولوها تأويلًا فاسدًا، ثم راحوا يسفكون بها الدماء، ويقتلون الأبرياء، ويروعون الآمنين، ويعيثون في الأرض فسادًا، ويجدون من يمدهم بالمال والسلاح والتدريب. وليست المسيحية دين إرهابٍ بسبب أن طائفة من المؤمنين بها حملوا الصليب وراحوا يحصدون الأرواح؛ لا يفرقون فيها بين رجل وامرأة وطفل ومقاتل وأسير. وليست اليهودية دين إرهاب بسبب توظيف تعاليم موسى عليه السلام -وحاشاه- في احتلال أراضٍ، راح ضحيته الملايين من أصحاب الحقوق من شعب فلسطين المغلوب على أمره. بل ليست الحضارة الأوربية حضارة إرهاب بسبب حربين عالميتين اندلعتا في قلب أوروبا وراح ضحيتها أكثر من سبعين مليونًا من القتلى. ولا الحضارة الأمريكية حضارة إرهاب بسبب ما اقترفته من تدمير البشر والحجر في «هيروشيما» و«نجازاكي». هذه كلها انحرافات عن نهج الأديان وعن منطق الحضارات، وهذا الباب من الاتهام لــو فــتـح -كما هو مفتوحٌ على الإسلام الآن- فلن يسلم دينٌ ولا نظامٌ ولا حضارةٌ ولا تاريخٌ من تهمة العنف والإرهاب. وإنا لنقدر لحضرة البابا تصريحاته المنصفة التي تدفع عن الإسلام والمسلمين تهمة العنف والإرهاب، وقد لمسنا فيكم -وفي الكوكبة من آباء الكنائس الغربية والشرقية- حرصًا على احترام العقائد والأديان ورموزها، والوقوف –معًا- في وجه من يسيء إليها، ومن يوظفها في إشعال الصراع بين المؤمنين. هذا، ولا يزال الأزهر يسعى -من أجل التعاون في مجال الدعوة- إلى ترسيخ فلسفة العيش المشترك، وإحياء منهج الحوار، واحترام عقائد الآخرين، والعمل –معًا- في مجال المتفق عليه بين المؤمنين بالأديان، وهو كثيرٌ وكثيرٌ. فلنسع -معًا- من أجل المستضعفين والجائعين والخائفين والأسرى والمعذبين في الأرض دون فرزٍ ولا تصنيفٍ ولا تمييزٍ. ولنعمل -معًا- على استنقاذ كيان الأسرة مما يتربص به من انفلات الأخلاق وانحرافات البحث العلمي، واستنقاذ البيئة من الفساد والمفسدين فيها. ولنقف –معًا- في وجه سياسات الهيمنة ونظريات صراع الحضارات ونهاية التاريخ، ودعوات الإلحاد، والعقلية الميكافيلية، والحداثة اللادينية، وفلسفات تأليه الإنسان، وما ينشأ عن كل ذلك من مآسٍ وكوارث في كل مكانٍ. أتوجه إلى الله الرحمن الرحيم أن يبارك اللقاء، وأن يجعل منه خطوةً حقيقيةً نتعاون فيها -جميعًا- على نشر ثقافة السلام والتآخي والعيش المشترك بين الناس.