من نعمة الله على المؤمنين بهذا الكتاب أن الباحث فيه عن شأن العلم وعلو رتبته لا يحتاج إلى أكثر من تدبر أول ما نزل من القرآن، وهو قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1 - 5]، وهي خمس آياتٍ قصيراتٍ؛ فيها أمرٌ بالقراءة مرتين، وفيها تنويه بشأن العلم والتعلم ثلاث مرات، ثم فيها ذكر القلم الذي هو أداة العلم ووسيلته؛ وفي هذا الاستهلال ما فيه من احتفاء الإسلام بقيمة العلم، والتنويه بمنزلته، والتذكير بخطره الشديد في التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ. ومما يعجب له المتفطن لأمر العلم في القرآن، أن يبعث نبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يمسك بالقلم طوال حياته لا تعلما ولا تعليمًا، وفي مجتمعٍ جاهلي لا عهد له بالقراءة ولا الكتابة، ولا بالعلم ولا التعلم لا من قريبٍ أو بعيد؛ وتكون كلمة «اقرأ» هي الكلمة الإلهية الأولى التي تطرق سمعه الشريف، وتغمر أقطار عقله وقلبه، ثم يكون حديث العلم والتعلم هو الرسالة الأولى التي يقرع بها آذانًا صما وقلوبًا عميًا لا تدري ما العلم ولا التعليم. وإن تعجب فعجبٌ أمر هذا الأمي الذي يؤمر بالقراءة وما هو منها بسبيل، فقد كان لا يقرأ خطا ولا يكتبه بيده، كما يقرر القرآن الكريم في قوله تعالى: قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48]. ووجه الإعجاز في هذه الآية: هو إثبات علمه ﷺ مع ثبوت أميته؛ لأن العلم والأمية أشبه بنقيضين لا يجتمعان في الواقع؛ إذ أحدهما ينفي الآخر لا محالة، بحكم الضرورة ومنطق العادة والمألوف المشاهد. وقد ذكر الإمام البوصيري السكندري هذه المعجزة في قصيدته «البردة»، فقال مخاطبًا رسول الله ﷺ: كَفَاك بالعلمِ في الأميِّ معجزةً في الجاهليَّة والتأديبِ في اليُتمِ والمقصود بالعلم: هو ما تضمنه القرآن من الحث على طلب الحكمة والمعرفة وما يحقق سعادة الدنيا والآخرة، ومن الإخبار بالأمور الغائبة، وبما في الكتب المنزلة قبل القرآن، ومن أخبار الأنبياء السابقين وقصص القرون الغابرة، ثم الإخبار بالأمور المستقبلية التي وقعت في حياته ﷺ كما قال، وعلى الوجه الذي أخبر به. وقد حارت عقول قريش في أمر هذا الأمي الذي عاش بين أظهرهم أربعين عامًا، لا يعرفون له رحلة واحدة في طلب العلم عند الفرس أو الروم أو اليهود في يثرب، وفجأةً يطالعهم بكلامٍ منضبطٍ بالعلم، ومحكوم بالعقل، ولا يجدون من تعليلٍ لهذا العلم الذي يتدفق من فم أمي، غير مفتريات وأكاذيب يرمونه بها، فقالوا: إنه يتعلم من بعض نصارى الروم الموجودين في مكة. وكان حدادًا يعمل في صناعة السيوف، وكان يقرأ من التوراة والإنجيل بلسانٍ غير اللسان العربي، وقد سخر القرآن من هذه الفرية، وتولى تفنيدها بصورةٍ معجزةٍ في قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103] ومعنى الآية باختصار: كيف يقولون ذلك، واللغة التي يقرأ بها هذا الحداد لغة أعجمية، بينما لسان محمد ﷺ لسانٌ عربي مبينٌ؟! ونلاحظ أن تفنيد القرآن لهذا الاتهام لا يتسق ولا يتم إلا إذا أقررنا بمسلمة تاريخية؛ هي أن التوراة والإنجيل لم يترجم أي منهما إلى اللغة العربية في ذلكم الوقت، وهذه المسلمة تشكل حجر الزاوية في استدلال القرآن على بطلان هذا الافتراء. لأنه لو افترضنا وجود ترجمة عربية لهذين الكتابين الإلهيين في شبه جزيرة العرب في عصر محمد ﷺ، فسوف ينهار الاستدلال من الأساس، ويتمكن المشركون من قلب حجة النبي ﷺ رأسًا على عقب، ولكان لهم أن يقولوا له: «إنك تنقل عن رومي يقرأ هذه الكتب في ترجمةٍ عربيةٍ، وليس من نص أعجمي، فلا حجة لك فيما تقول». ولكم أن تتأملوا الثقة المطلقة التي كانت تملأ جوانحه ﷺ وهو يواجه القوم ويتحداهم بأن تكون اللغة العربية قد عرفت ترجمة عربية لهذين الكتابين في ذلكم الوقت. ولم يكد ينتصف القرن العشرون بأبحاثه العربية المتعمقة في تاريخ الأديان، حتى قرر العلماء الغربيون المختصون أن أول ترجمة عربية للتوراة والإنجيل ظهرت بعد وفاة محمد ﷺ بمئتي عام على أقل تقدير، فكيف علم هذا النبي الأمي -علم اليقين- هذه المسلمة التي أثبتتها أبحاث في القرن العشرين؟! بل كيف واجههم بأمرٍ كهذا يتطلب إثباته مسحًا شاملًا لكل ما هو مكتوب باللغة العربية في جزيرة العرب، وبخاصةٍ ما هو موجود منها في الأديرة والمعابد في بلاد الشام لو لم يكن هذا الذي يقوله هذا النبي وحيًا من الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟! لقد كان من المتوقع أن تجيء الآيات الأولى من القرآن الكريم موقظةً لفطرة الإيمان بالله تعالى؛ إذ هو أصل الأصول في الأديان، بل الأصل الذي لا يثبت في غيابه أصل آخر، لكن وجدنا القرآن يبدأ رسالته للناس بقرع أجراس العلم والمعرفة في آذانهم وعقولهم أولًا، ليتنبهوا -بعد ذلك-إلى أن أمر العقيدة في الإسلام إنما يتأسس -في المقام الأول- على «العلم» والنظر العقلي، وليس على «التسليم القلبي» الخالي من حجج العقل واستدلالاته.