أكتوبر 2018

الندوة الدولية "الإسلام والغرب.. تنوعٌ وتكاملٌ"

الإمام الأكبر أ.د: أحمد الطيب.png
إيمانًا من فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، بأهمية دراسة وبحث قضايا القراءة المعاصرة للعلاقة بين الإسلام والغرب، وخاصة في تشييد المزيد من جسور الحوار والتواصل مع أتباع مختلف الحضارات والثقافات عبر العالم، والإسهام بفاعلية في كل ما ينفع الناس ويسهم في خير البشرية.. عقد الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر ندوة دولية بالتعاون مع مركز نظامي كنجوي الدولي (NGIC)، تحت عنوان "الإسلام والغرب.. تنوعٌ وتكاملٌ"، في الفترة من 22-24 أكتوبر 2018 بالقاهرة؛ لدراسة وبحث قضايا القراءة المعاصرة للعلاقة بين الإسلام والغرب، حيث إن الإسلام ليس بغريب على الغرب، ولا يمثل مجموعةً من المعتقدات الغريبة "الدخيلة على الغرب"، ولكنه الآن الديانة الثانية في أوربا، ويعتنقُه عدد كبير من المواطنين في العديد من البلدان الغربية.
 
ولقد نجحت العناصر المتطرفة والإرهابيون في زرع الشقاق بين أغلبية السكان وبين المسلمين الذين يعيشون في وسطهم. وكان هذا هدفًا يسعى إليه العديد من الجماعات المتطرفة عبر اعتمادهم على العمليات الإرهابية أو تبني الأعمال الإرهابية التي يقوم بها أشخاص مهمشون أو حتى مختلون عقليًّا.
 
وقد استغل سياسيون شعبويون مخاوفَ السكان، وانتقدوا بشدة قضايا الهجرة والتعددية الثقافية والبِطالة؛ لأنهم يسعون إلى بناء قاعدة متينة وصلبة من الدعم الثابت لهم، فصاروا ينتقدون التعددية التي كانت من صميم القيم الأوربية، التي كانت سائدة في المجتمع الأوربي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ حيث أصبحوا يقدمون الإسلام كدين للتطرف والتعصبِ.
 
كما أنَّ الأنظمة المحافظة في عددٍ من البلدان ذات الأغلبية المسلمة أسهمت بشكل كبير في زيادة الشعور بالاغتراب، من خلال الترويج لخطاب بعيد كل البعد عن السلوكيات المتأصلة في الدين الإسلامي السمح، والتي يشهد عليها تاريخ المسلمين في العصور الوسطى، من الأندلس إلى الهند ومن آسيا الوسطى إلى إفريقيا، عبر تاريخ طويل يقترب من ألف سنة، ويتزامن في جزء كبير منه مع العصور المظلمة في أوربا.
 
وأتت هذه الندوة ضمن مبادرة الشرق والغرب التي بدأها الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين منذ سنتين مع شركاء عالميين مثل: مجلس الكنائس العالمي، وأسقفية كانتربري، ومنظمة سانت إيجديو.
 
وهدفت الندوة إلى تجاوز الصور النمطية والتصورات المسبقة فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين، وصولًا إلى فهمٍ مشتركٍ، يقوم على رؤية موضوعيَّة وأسسٍ علميَّةٍ، بعيدًا عن النظرة الاتهاميَّة التي تروجها بعض وسائل الإعلام لربط التطرف والإرهاب بالإسلام، وتعزيز التعاون المشترك وتقريب وجهات النظر، وترسيخ ما جاءت به الأديان السماوية الثلاث: "اليهودية والمسيحية والإسلامية" من دعوة للتعارف ونبذ العنف ومواجهة الأفكار المغلوطة.
 
وبحثت الندوة، القضايا المعاصرة المتعلقة بالعلاقة بين الإسلام وأوربا، وتتضمن الندوة ثماني جلسات، تتناول عدة محاورة، من أبرزها: "تطور العلاقة بين الإسلام والغرب" و"التوتر بين المسلمين وباقي الأوربيين.. المواطنة هي الحل"، و"القومية والشعبية ومكانة الدين"، و"الديموغرافيا والأيديولوجيا والهجرة والمستقبل"، كما تستعرض الندوة بعض تجارب التعايش الناجحة، مثل مبادرة "بيت العائلة المصرية"، و"التجربة السويسرية ."
 
منهج الندوة:
 
ارتكزت الندوة على جمع مشاهير العلماء المتخصصين في دراسة العلاقة بين الإسلام والغرب، بالإضافة إلى علماء الإسلام في الغرب؛ لفتح باب الحديث والحوار مع قادة من أوربا وغيرها، بهدف التوصل إلى بعض الاستنتاجات العملية حول كيفية رأب الصدع بين الغربيين والمسلمين في الغرب، بعيدًا عن المناهج الجدلية والاتهامية التي استخدمتها وسائل الإعلام لربط التطرف والعنف والإرهاب بالإسلام.
 
وضم هذا الجمع أصحاب مواهب هائلة وعلْم جَمٍّ من الأكاديميين البارزين، واعتمدت الندوة على المكاشفة الجريئة لحالة الدراسات والبحوث في حقولنا المعرفية، وفتح النوافذ تجاه ما يمكن عمله بشكل أفضل في مجال الدراسات الإسلامية، من خلال عدد من الأسئلة كان أبرزها:
 
أولاً: اختلاف ممارسات تدريس الموضوعات التي تتناول الدراسات الإسلامية ونطاق ومنهجية الأبحاث حول هذه الدراسات بين المؤسسات الغربية للتعليم العالي وتلك الموجودة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. ما هي نقاط الاتفاق؟ ما هي نقاط الاختلاف؟ أين يمكننا إيجاد أرضية مشتركة؟
 
ثانيًا : مع ظهور الواقع الرقمي الجديد، فإن الكتب الرقمية تسمح باتباع طرق جديدة في التعامل معها، ومنها استخدام تحليلات البيانات الضخمة والتعلم الآلي والتعرف على الأنماط، بالإضافة إلى أساليب أخرى أحدث، والتي تتطور حاليًّا بما سيسمح لنا باستخدام كل شيء، بدءًا من عدد مرات التكرار بمرور الوقت وحتى تحديد الأسبقية بين الأعمال المختلفة.
 
إن لعلم المخطوطات (الكوديكولوجي) مكانةً كبرى في العديد من المؤسسات الغربية، ولكنه ما يزال ناشئًا في العديد من المؤسسات الشرقية. هل هناك ما يمكن القيام به، في هذا المجال الخاص بالتقنيات الجديدة، لإحداث تقدم في مجال دراسات المصادر المهمة التي لم تتعرض للدراسة بعد في العالم الإسلامي؟ هل يفتح ذلك مجالًا للتعاون بشأن دراسة العلاقة بين المعارف الغربية والإسلامية؟ هل يمكننا تصميم برنامج لمثل هذا التعاون؟
 
ثالثًا : في ظل الوضع السياسي الذي زعزعته العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في العالم، هل يجب على علماء الغرب مشاركة مؤسسات شرقية في إنتاج واحد أو أكثر من الكتيبات الإرشادية عن الإسلام والمسلمين (باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية)، والتي يمكن أن يكون بمثابة مرجع لشباب الغرب والعرب على حد سواء؟
 
ما هي الخطوات الأخرى التالية التي يمكننا الاتفاق عليها للمتابعة؛ حتى لا يظل هذا الحدث الفريد حدثًا لمرة واحدة؟
 
شارك في الندوة عدد من الرؤساء والوزراء السابقين، وشخصيات سياسية ودولية وأكاديمية بارزة، وعدد من رجال وزعماء وقادة الأديان من الشرق والغرب، أبرزهم: رئيس جمهورية ألبانيا الأسبق، والسيد/ أمين الجميل رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، ورئيس الوزراء البلجيكي السابق، والسيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، ونائب رئيس الرابطة اليابانية لدراسات كيوسي.
 
 
 
كلمة الإمام الأكبر
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمدُ لله والصَّلاة والسَّلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
السادة أعـلام المنصة!
 
 
الضيـــــوف الأعـزاء!
 
 
الحفــــل الكــــــريم!
 
 
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه.
 
ومرحبًا بكم في مصر المحروسة مُلتَقى الحضـارات وحاضِنَـةِ العلــوم والثقافات، ووادي النِّيل وأرضِ الأهرامات وبلد الأزهر الشريف أقدم المعاهد العلميَّة وشيخ الجامعات.. حللتم أهلًا، ونزلتُم سَهْلًا.. طبتُم وطابت رحلتكم وطاب مُقامكم.
وشُكْرًا من الأزهر الشَّريف ومؤسَّساته، لاستجابَتِكُم الكريمة للمُشاركةِ في هذه الندوة الدوليَّة من ندوات الحوار بين الشَّرقِ والغرب، والتي أرجو أنْ تأتيَ ندوةً مُثمرة مُتميِّزة في مناقشةِ أمر العلاقة بين الإسلام والغرب، مناقشةً تتأسَّس على المصارحة والمكاشفة، وتأخذ في الحسبان الظروف القاسيةَ التي تُعاني منها شعوبنا هنا في الشرقِ، وتحتاج إلى تفكيرِ الحُكماء وتدبير العُقلاء من أمثالكُم.
 
 
السَّيِّداتُ والسَّـادَةُ!
 
 
فكَّرتُ طويلًا في الكلمة التي ينبغي أن أُسهم بها في ندوتنا هذه، ووجدتُني في حالة تُشبه حالة المُضطر للحديثِ في موضوعٍ مكرورٍ، فقد قيل فيه كلامٌ كثير، وصَدَرَتْ بيانات وتوصيات لا يُستهان بقَدْرِها في الدعوةِ إلى الحوارِ بين الحضارات، وضرورة الالتِقاء على أمرٍ جامعٍ بينها من أجلِ إنقاذ عالَمنا المعاصر من مخاطر الصِّراع والسَّلام المتوتِّر، وحروب الأمس الباردة، وحروب اليوم الملتهبة. ورُغم هذه الجهود المشكورة من حكماء الغرب والشرق، إلَّا أنَّ الطريقَ لا يزال وَعْرًا، وأنَّ جهدًا أكبرَ يجب أن يبذل، وقد تأمَّلتُ هذه المفارقة اللامنطقية بين الواقع والمأمول، وبدا لي أنَّ السبب قد يعود إلى وجود عقبات على طريق الحوار، وأنَّ الاشتغال بالتركيز على هذه العقبات: تشخيصًا وعلاجًا رُبَّما كان أجدى وأكثر اختصارًا لهذا المشوار الطويل.. ومن هذا المنظور تأتي كلمتي التي أُسهم بها في هذه الندوة، والتي سأوجزها فيما يشبه الخواطر والتأمُّلاتِ وأحلامَ اليقظة أيضًا.
 
 
وأوَّلُ ما أوَدُّ تأكيده -أمام حضراتكم- في هذا الشأن هو اقتناعي بأن الشرق: أديانًا وحضاراتٍ ليست له أيَّة مُشكلة مع الغرب، سواء أخذنا الغرب بمفهومِه المسيحي المتمثل في مؤسَّساته الدينيَّة الكبرى، أو بمفهومِه كحضارة علميَّة ماديَّة، وذلك من منطلق تاريخ الحضارات الشرقيَّة ومواقفها الثابتة في احتِرام الدِّين والعِلم، أيًّا كان موطنهما، وكائنًا من كان هذا العالِم أو المؤمن..
 
 
وما أظنُّ أنَّ هذه القضيَّةَ بحاجةٍ إلى البرهنة والاستدلال، فحضارة الأندلسِ في قلبِ أوربا قديمًا، وانفِتاحُ الأزهر الشريف على كل المؤسَّسات الدينيَّة الكبرى في أوربا حـديثًا، والتجـاوبُ الجـاد المسـئول من قِبـل هـذه المؤسَّسات الغربية- أقوى دليل على إمكانيَّة التقارُب بين المجتمعات الإسلاميَّة في الشرق والمجتمعات المسيحيَّة والعلمانيَّة في الغرب، وأنَّ هذا التقارُب حَدَثَ ويُمكِن أنْ يحدُث؛ وليس أمره كما قال الشاعر «كيبلنج»: «الشرق شرق والغرب غرب، وأبدًا لن يلتقيا».
 
 
وهنا أتذكَّر بحوثًا حديثة لبعض الغربيِّين المختصِّين بقضية الحوار الإسلامي المسيحي، يستدعون فيها تاريخ النَّمط الأندلسي بثقافاته الثَّلاث: اليهوديَّةِ والمسيحيَّة والإسـلاميَّة، للاهتداء بهذا الأنموذج في رسـم خارطـةٍ لمسـار الحوار الجاري حاليًّا، وتصميم «إطـار نظري وتطبيقي لقواعد هذا الحـوار وأغراضه الأساسية» وبخاصةٍ بعد ما بُذلت جهودٌ غربيَّة مُعاصِرَة جاوبتها جهودٌ شرقيَّة لدفعِ مَسيرة الحوار بين الإسلام والغرب، في مقدمتها: قرارات مَجْمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، وزيارة البابا بولس السادس لبعض الدول العربيَّة وعلى رأسها دولة فلسطين، وإعلانُ الأمم المتحدة تبني مشروعَ تحالُفِ الحضارات عام 2004م، والذي شجَّعَ على عَقْد مُؤتمرات حوار عالميَّة في الغرب والشرق، وكذلك زيارة البابا فرنسيس لمصر (في أبريل الماضي)، ومشاركتهُ في افتتاح مؤتمر الأزهر العالَمي للسَّلام، وتبادل الزيارات بين الأزهر ورئيس أساقفة كانتربري، ومجلس الكنائس العالمي في جنيف والكنيسة البروتِسْتَانتيَّة بألمانيا، وقد شَعَر هؤلاء المختصون بما يَشْعُر به كل مهموم بقضيَّةِ «السَّلام الضَّائع» من المصاعب والمتاعِب التي تقف حجر عثرة في طريقِ الجهود المبذولة محليًّا ودوليًّا، وتُباعد بينها وبين النتائج المحدودة التي تتمخَّض عنها هذه اللِّقاءات..
 
 
ومِمَّا يؤكِّد اقتناعي بأنه لا مشكلة للشرق أو الإسلام مع الغرب واقعُنا الذي نعيشه بحلوه ومُرِّه، وخيره وشَرِّه، مُنْذُ انفتحت أبواب المسلمين على الغرب في القرنين الماضيين وحتى اليوم؛ فمنذُ ذلك الحين والمسلمون يعتمدون شيئًا غير قليل من حضارة الغرب في حياتهم نظريًّا وعمليًّا، وهذه مدارسنا وجامعاتنا، بل مدارس أطفالنا الأجنبيَّة التي يتحدَّثون فيها- بكلِّ أسف- الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة بأفضلَ مِمَّا يتحدَّثون العربيَّةَ، التي هي لُغة أمهاتهم وآبائهم وأوطانهم.
 
أقول: هذه المؤسَّسات التَّعليميَّة تُلَقِّن أبناءنا من المواد العلميَّة والأدبيَّة كثيرًا مِمَّا يتلقَّنه الطلاب الأوربيون في جامعاتهم الغربية.. وهذه جامعة الأزهر، الجامعةُ الوحيدة التي تعتزُّ بدراسةِ التُّراث الإسلامي جنبًا إلى جنبِ المناهج التعليميَّة الغربيَّة الحديثة في كليات الطِّب والهندسة والصيدلة والعلوم والزراعة وغيرها - هذه الجامعة بها كُلية لتعليم اللُّغات الأجنبيَّة، وتدريسِ آدابها في أقسام علميَّة مختلفة، ويتردَّد في ردهاتها أسماء روَّاد الأدب الغربي بمدارسِه المتنوعة، بل أذهب بعيدًا لأقول: «إن أقسام الأدب العربي في جامعاتنا تُدرِّس لطلابها العرب- مسلمين وغيرِ مُسلمين- كلَّ المذاهب النَّقديَّة المعروفة في الغرب، وكذلك أقسام الفلسفة تدرِّس لطلابها كل مذاهب الفلسفة الغربية.. بل أذهب إلى أبعد من ذلك حين أقول: إنَّنِي دَرَست الفلسفة في كلية أصول الدِّين في ستينيات القرن الماضي على شيوخ أجِلَّاء.. درسوا في جامعات أوربا ونالوا شهاداتهم العليا على أيدي أساتذة أوروبيين، وقد غرسوا في نفوسنا احترام هؤلاء الأساتذة وتوقيرَهم والاعترافَ بفضلهم، حتى وإن اختلفنا معهم».. وهذه السماحة التي حرص شيوخنا على تأديبنا بها، لم تكن انعكاسًا لما تعلَّموه في أروقة جامعات الغرب بقَدْرِ ما هي انعكاس لفلسفةِ الإسلام في تواصله مع الآخر: تأثرًا وتأثيرًا.. فهذا هو الفيلسوف المسلم «ابن رُشد» الذي تعرفه جامعـات الغرب وتعرفُ فضلَه على أوربا في القرون الوسطى، يؤصِّل في نصٍّ بديعٍ، لا أمَلُّ من التذكير به، في ضرورة النَّظَر العقلي ومشروعية انفتاح المسلمين على ثقافات الآخرين، وضرورة الاستفادة من جهود السابقين عليهم، في كل العلوم، بما فيها علوم الفلسفة، التي هي أخطر العلوم مساسًا بالعقائد والأديان.. يقول ابن رشد في هذا النص: «يجب علينا إن أَلْفَيْنا لمن تقدَّمنا من الأُمَم السَّالفة نَظرًا في الموجودات (....) أن ننظرَ في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقًا للحقِّ قبلناه منهم، وسُررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبَّهنا عليه، وحـذَّرنا منه، وعذرناهم».
 
 
والذي يقوله «ابن رشد» في هذا النص لا يقوله تجمُّلًا للذات ولا مجاملة للآخر، وإنَّما يكشف فيه عن أصلٍ ثابت من أصول الإسلام في الحث على البحث عن الحقيقة، وشُكْرِ مَن يكتشفها وعُذْرِ مَن يُخفق في اكتشافها، وهذا ما نحفظه عن ظهر قلب عن نبيِّ الإسلام ﷺ من أنَّ المجتهدَ الذي يصيب الحق له أجران من الله تعالى: أجر مشقَّةِ البحث وأجر اكتشاف الحق. والمجتهدُ الذي لا يصيب الحق في اجتهاده له أجرٌ واحدٌ هو أجر عناء البحث ومكابدته، فالباحثُ عن الحقيقة، والمؤهل لاكتشافها هو دائمًا في فلسفة الإسلام: إمَّا مشكور وإمَّا معذور، ولا أظن أنَّ معادلة أخرى تبلغ من السَّماحة مع الغير ما تبلغه هذه المعادلة.
 
 
ومَنْ يشرفنا منكم- أيُّها السَّـادة الضيـوف الفُضلاء- بزيارة لكلياتنـا الأزهريَّة العريقة في حيِّ الأزهر القديم يرى معهدًا لتعليم طلابِنا الذين هم شيوخُ المستقبل، اللُّغاتِ الأوربيَّةَ، وإعدادِ المتفوقين منهم للدراسات العُليا في جامعات أوربا، وهذا المعهد يشترك في إدارته والإشراف عليه المركزُ الثقافي البريطاني، والمركزُ الثقافي الفرنسي، ومعهدُ جوته الألماني، تحت مظلَّة مشيخة الأزهر الشريف..
هذه هي مناهج الأزهر بأصالتها وانفتاحها الواعي على الحكمة أنَّى وُجِدَت، هي التي (تصنع العقل) الأزهري المعتدل في تفكيره وسلوكه، والقادر دائمًا على التكيُّف مع العصر وإشكالاته ومعطياته.
 
 
وأمرٌ آخر قد يخفى على كثيرين في أمر العلاقة بين الشرق والغرب؛ هو أنَّ كثيرًا من المظاهر الثقافية والحضارية الأوربية متغلغلٌ اليوم في عُمق ثقافتنا الشرقية، في شتَّى ميادينها السياســيَّة والتعليمــيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة، وأن الاختلاف بين الثقافتين يكاد يكون محصورًا في مجال الدِّين والعقيدة وما يرتبط بهما من قيم وتقاليدَ تاريخيَّةٍ وثقافية، لا مفرَّ منها لأي شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم تحرص على ثقافتها وتحميها من العُدوان والذوبان والاندثار..
 
 
السَّيداتُ والسَّادة!
 
 
لعلَّكم تتفقون معي، بعد هذا السَّرد، في أنَّ سؤالًا مشروعًا يفرض نفسه هنا، وهو: أين هذا الإسلام المنغلق على نفسه، والمحبوسُ في ماضيه، والذي يُشكِّل أتباعه خطرًا ماحقًا على حضارة الغرب ومنجزاته الكبرى في علوم الكون والإنسان؟! وأين شعب من شعوب المسلمين يملك مصنعًا واحدًا من مصانع أسلحة الدَّمار الشامل، أو مصدرًا واحدًا من مصادر القُوَّة العنيفة الرَّادِعة ويُمْكِن أن يُقال عنه إنه يرعِب القُوى الدوليَّة، التي تتمتَّع- بكل أسف- بحرية لا سقفَ لها، في أن تقول ما تشاء، وتفعلَ ما تُريد، وتلوِّحَ بعصاها الغليظة لكل من يُعارضها، أو يجرؤ على التفكير في مُراجعتها!!
إنَّ المشكلةَ- فيما أعتقد، وقد أكون مصيبًا وقد لا أكون- تكمُن في هذه القُوَّة العالميَّة التي يملؤها الشعـور بالغَطْرَسَةِ وبحَـقِّ السيطرة على الآخـرين وتسخيرهم لتحقيقِ مصالحها ومنافعها الخاصة، انطلاقًا من الشعور بأنها الحضارة الأرقى والأنقى، وصاحبةُ الحق المطلق في سيادة الشعوب وقيادتها..
 
 
وهذه هي عينُ الذَّرائع التي تذرَّع بها الاستعمارُ القديم وبرَّر بها انقضاضه على مقدَّرات الشعوب وثرواتها.
 
 
وأنا أيُّها السَّادَة الفُضَلاء! مِمَّن يؤمنون بتعارُف الثقافات، وتكاملها وتعاونها، تعلَّمتُ ذلك من القرآن الكريم الذي حفظتُ منه منذ الطفولة أنَّ «التعارف» هو قانون العلاقات بين الأمم والشعوب، وذلك في الآية التي يعرفها المسلمون وغيرُ المسلمين في الشرقِ والغرب، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، كما تعلَّمتُه في دراستي للتراث العقلي عند المسلمين وتلاقحه مع ثقافات اليونان والهند والفلسفات الدينية في العصر الوسيط.
 
 
ولم يكن يخطر بالبال يومًا أنَّ القرنَ العشرين قرنَ التقدُّم الحضاري، والرُّقيِّ الإنساني، وقرنَ حقوق الإنسان، ومواثيقِ السَّلام الدوليَّة.. سوف ينتهي بظهور نظريَّات ومذاهبَ تمهِّد للحروب بين الشعوب وتبرِّر الصِّراع بين الحضارات، وقد قرعتْ أسماعَنا طويلًا نظرية الصراع الطبقي التي ما لبثت أن تهاوتَ وذهبت أدراج الرياح، و «نظريَّة نهاية التاريخ»، ونظريَّة «هنتنجتون» في صِراع الحضارات، وهي نظريَّات ترتد أصولها إلى أطروحات عُنصرية خالصة، في مُقدِّمتها: أطروحة ماكس فيبر العالِم السسيولوجي والاقتصادي الألماني (1864-1920م)، الذي مضى على رحيله اليوم قرابة قرن كامل من الزمان.. هذا العالِم أسَّس لنظريته بدعوى تقول: إن «مقارنة الحضارة الغربيَّة بغيرها من الحضارات البشريَّة، تُثبتُ تفرُّدَ الحضارة الغربيَّة بخصائصَ فريدةٍ في نوعها، لا يوجد لها نظيرٌ بين سـائر الحضـارات الأخرى، وأنَّ خـصائصَ الحضارةِ الغربيَّة لم تعرفها أيَّةُ ثقافةٍ إنسانيَّةٍ أخرى خارج ثقافة الغرب».
 
 
ثم جاء المُستشرق الشَّهير الإنجليزيِّ الأصل: «برنارد لويس»، ليؤكِّد في كتابه: «الإسلام»، أنه أوَّلُ مَن أطلَق فِكْرَة: [صِدَام الحضارات] عام 1957م، غداة تأميم مصر لقناة السويس بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتعرُّضِ الشعب المصري لحرب العُدوان الثُّـلاثي عام 1956م.. وقد عاد لويس لهذه الفكرة مرَّة أخرى عام 1990م، وهو بِصَدَدِ الحديث عن العالَم العربيِّ والإسلاميِّ، ليُؤكِّد من جديدٍ أنَّ أمْرَ الغرب حيال الإسلام هو أمرُ صِدَامِ حضاراتٍ حقيقي وتاريخي، وأنَّ صِدَامَ الغرب لهذا الدِّين بالذَّات ولحضارته من بين سائر الحضارات الأخرى هو فيما يقول: «ردُّ فعل على خصمٍ قديم لتراثنا اليهودي والمسيحي»، ثم يقول: «إنَّ صِدامَ الحضارات هو مَظهر مهم للعلاقاتِ الدوليَّة الحديثة».
 
 
السَّيِّدات والسَّـادَة!
 
 
أرجو ألَّا يُفهم من كلامي أني أُنحي باللائمة كلِّها على الغرب وحضارته، ففي الشَّرق أيضًا عيوب وسَلبيَّات، أسهَمَت في تأكيدِ ظاهِرَة الخوف من الإسلام التي انتَشَرَت مؤخَّرًا بين جماهير الغرب، ومن أخطرِ هذه العيوب هو هذا الصَّمت المريب عن الإرهاب الذي مَكَّنَ للحركات السياسيَّة المسلَّحة من الرَّبطِ بين الإسلام وبين جرائمها الإرهابيَّة، وإطلاقِ أسماءٍ دينيَّة على مُنظَّماتها، استقطبت بها كثيرًا من الشَّباب والشَّابات الذين غرَّهم هذا المظهر الديني الخادِع.. حتى استَقرَّ في أذهانِ الغالبيَّة من الأوربيِّين والأمريكان أنَّ العُنْفَ والإسلام توأمان ورضيعا لِبان لا يُفارِقُ أحدهما الآخر إلَّا ريثما يَلتصِق به من جديد، حتى بات من الصَّعب توضيحُ الحقيقة للغرب والغربيِّين، وأنَّ هذا الدِّين مختطفٌ بالإكراهِ لارتكاب جرائمَ إرهابيَّة بَشِعة على مرأى ومسمع من أهلِه وذويه والمؤمنين به، وأنَّ المسلمين الذين يوصفون بالعُنف والوحشية هم- دون غيرهم- ضحايا هذا «الإرهاب الأسوَد»، وأن تعقُّبَ أسباب الإرهاب، والبحثَ عن عِلَلِه القُصوى ليس محلُّه الإسلامَ ولا الأديانَ السَّماويَّة، أمَّا محلُّه الصَّحيح فهو الأنظمة العالميَّة التي تُتاجر بالأديانِ والقيمِ والأخـلاقِ والأعرافِ في أسـواقِ السِّـلاحِ والتسليحِ وسياسات العُنصرية البغيضة والاستعمار الجديد.
 
 
شـكرًا لحســنِ اسـتماعكـم.
 
 
والسَّلامُ عَليْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.
ندوات ومؤتمرات

اشترك لمتابعة الأخبار

جميع الحقوق محفوظة لموقع الإمام الطيب 2024