لسنا بأغلى ممَّن فقدت هذه السيدة المكلومة" ، قالها وخطا في الرمال مسرعًا، تاركًا سيارته وقائد حراسته ومساعديه، غير عابئ بالمخاطر التي قد تكلِّفه حياتَه، وذلك من أجل مواساة امرأة مكلومة؛ ليضرب لنا فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر أروعَ الأمثلة في التضحية والعمل الإنساني.
ففي أوائل أبريل من العام (2017م)، وفي أثناء الزيارة التي قام بها فضيلته لمسجد الروضة ببئر العبد بشمال سيناء؛ لتأدية صلاة الجمعة بداخل المسجد الذي وقع فيه الحادث الإرهابي الغاشم في 24 نوفمبر من العام (2017م)، وخلف أكثر من ثلاثمائة شهيد، فضلًا عن مئات الجرحى والمصابين، تحدَّى "الإمام الطيب" كل المحاذير الأمنية، وأصر على المرور على بيوت القرية لتعزية أهلها ومواساتهم بنفسه، واتخذ وقتئذٍ عدة قرارات مهمة لصالح أهل القرية؛ من بينها صرفُ معاش شهري لذوي الشهداء، والتكفل برحلات حج مجانية لهم، وتوسعة وبناء مجمع أزهري متكامل لخدمة أبناء القرية، وإسكان طلاب وطالبات جامعة الأزهر من أهالي بئر العبد في المدن الجامعية، فضلًا عن توجيه قوافل دعوية وطبيَّة لأهالي شمال سيناء وخصوصًا بئر العبد، وفتح اتصال مباشر مع المحافظ وشيوخ القبائل ومشيخة الأزهر لتلبية احتياجات القرية.
وعقب الانتهاء من جولة العزاء، وفي الوقت الذي استعدت فيه سيارات الموكب الخاص بفضيلته لمغادرة القرية للعودة للقاهرة، سمع فضيلته بقصة "امرأة مكلومة" أطلق عليها أهل القرية لقب "أم الشهداء" ؛ نتيجة لفقدانها أولادها وأحفادها وزوجها وعددًا من أسرتها في الحادث الإرهابي الغاشم الذي تعرضت له القرية، فما كان منه إلا أن قال: "توقفوا"، لا بد أن أذهب إليها، فتفاجأ قائد الأمن بذلك القرار، وأعرب عن تخوفه من المخاطر التي قد تنتج عن إيقاف الموكب، ولكن "الإمام الطيب" أصرَّ على النزول من السيارة للذهاب لتلك "المرأة المكلومة" التي فقدت اثني عشر شهيدًا من أهلها، ونزل مسرعًا من السيارة غير مبالٍ بالمخاطر والمحاذير الأمنية، يخطو في الرمال وحدَه متوجهًا إلى منزلها حتى لحق به قائد الأمن صائحًا: "هذا خطر فضيلتك"، ليردَّ عليه الإمام الطيب قائلًا: "لسنا بأغلى ممن فقدت هذه السيدة المكلومة"، ومضى في طريقه إليها وسط الرمال مطيِّبًا جراحها ومواسيًا لها في مصابها، مستأذنًا منها في نيلِ شرف خدمتها سعيدًا، قائلًا لها: "نساء الروضة مدرسة المصريين في الصبر.. فأمثالكم مَن يعلموننا نحن الصبر.. ولا تحرميني من شرف خدمتك" . فأبدَت المرأة المكلومة رغبتها في زيارة بيت الله الحرام، فأمر فضيلته على الفور بتلبية طلبها بالحج إلى بيتِ الله الحرام على نفقة الأزهر الشريف في العام نفسه، ثم انحنى ليسلم على حفيدتها الصغيرة التي فقدت أباها، يداعبها ويسألها عن اسمها، داعيًا لها ولجدتها أن يرحم الله -عزَّ وجل- شهداءهم الذين لقوا ربهم ساجدين، وأن يسكنهم الفردوس الأعلى وأن يُلهم أهل القرية جميعًا الصبر والسلوان.