إن موضوع «تجديد الفكر الديني» أو« تجديد الخطاب الديني» الذي يدور على ألسنة الكثير وأقلامهم في الآونة الأخيرة وعلى شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد، ويزداد غموضًا وإبهامًا والتباسًا؛ من كثرة ما تناولته وسائل الإعلام بغير إعداد علمي كافٍ لبيان مفهوم التجديد، وتحديد ما هو الخطاب الذي يراد له التجديد، وهل صحيح أن ما سموه بـ«الخطاب الديني «كان هو -وحده- أصل الأزمات التي يعاني منها العالم العربي أمنيا وسياسيا، وكذلك التحديات التي تقف عائقًا أمام نهضته وتقدمه؟! ويكفي دليلًا على هذا التخبط في تناول «تجديد الخطاب الديني «أنك تسمع بعض الأصوات التي تنادي بإلغاء الخطاب الديني -جملةً وتفصيلًا- وتراه جزءًا من الأزمة، أو تراه هو الأزمة نفسها وليس حلا لها، وهؤلاء لا يفصحون عن مقتضى دعوتهم هذه ولازمها المنطقي؛ وهو تحويل مؤسسة الأزهر إلى متحفٍ من متاحف التاريخ، بكل تجلياتها العلمية والروحية والثقافية، وعبر أكثر من عشرة قرون، وبعد أن بات الغرب والشرق يقران بأنها أقدم وأكبر جامعة على ظهر الأرض. وفي المقابل: تسمع أصواتًا تنبعث من العدوة القصوى، لا تفهم من تجديد الخطاب الديني إلا العودة فقط إلى ما كان عليه سلف الأمة وصالحو المؤمنين في القرون الثلاثة الأولى، وهؤلاء أيضًا يحلمون باليوم الذي يضعون فيه أيديهم على مؤسسة الأزهر، ويجمدون برسالته وعلومه ودعوته عند حدود التعبد بمذهب واحد، واعتقاد معين، وأشكال ورسوم يرونها الدين الذي لا دين غيره. وهؤلاء يهددون سماحة هذا الدين الحنيف وشريعته التي تأسست على التعددية واختلاف الرأي في حرية لا نعرف لها نظيرًا في الشرائع الأخرى، وهؤلاء لا يطيقون أن يتسع الأزهر في عصره الحديث لما اتسع له عبر عشرة قرون من إجماع واتفاق على الأصول وقواطع النصوص وكليات الدين. فإذا تجاوز النظر هذه الأصول والقواطع والكليات، فباب الاختلاف وحرية الرأي والأخذ والرد بين العلماء مفتوح على مصراعيه، وبوحي من هذا المنهج التعددي اتسعت أروقة الأزهر وكلياته – ولا زالت تتسع ليوم الناس هذا- لدراسة المذاهب الفقهية -السنية وغير السنية- دراسة علمية، لا انتقاص فيها من مذهب، ولا إغضاء من شأنه أو شأن أئمته. وبهذا المنظور ذاته الذي يتسع للرأي والرأي الآخر -بل للآراء الأخرى- درس الأزهر للدنيا كلها مذاهب علم الكلام والأصول، وكل علوم التراث النقلي والعقلي. إن التجديد هو خاصة لازمة من خواص دين الإسلام، نبه عليها النبي ﷺ في قوله: »إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأس كلِّ مئة سنةٍ مَن يُجدِّدُ لها دينها». وهذا هو دليل النقل على وجوب التجديد في الدين. أما دليل العقل: فهو أننا إذا سلمنا أن رسالة الإسلام رسالة عامة للناس جميعًا، وأنها باقية وصالحة لكل زمان ومكان، وأن النصوص محدودة والحادثات لا محدودة؛ فبالضرورة لا مفر لك من إقرار فرضية التجديد آلة محتمة لاستكشاف حكم الله في هذه الحوادث. والتجديد الذي ننتظره ينبغي أن يسير في خطين متوازيين: • خط: ينطلق فيه من القرآن والسنة -أولًا وبشكل أساس- ثم مما يتناسب ومفاهيم العصر من كنوز التراث بعد ذلك. وليس المطلوب -بطبيعة الحال- خطابًا شموليًّا لا تتعدد فيه الآراء ولا وجهات النظر؛ فمثل هذا الخطاب لم يعرفه الإسلام في أي عصر من عصور الازدهار أو الضعف، وإنما المطلوب خطاب خالٍ من »الصراع» ونفي الآخر، واحتكار الحقيقة في مذهب ومصادرتها عن مذهب آخر مماثل. • وخط موازٍ: ننفتح فيه على الآخرين؛ بهدف استكشاف عناصر التقاء يمكن توظيفها في تشكيل إطار ثقافي عام يتصالح فيه الجميع، ويبحثون فيه -معًا- عن صيغة وسطى للتغلب على المرض المزمن الذي يستنزف طاقة أي تجديد واعدٍ، ويقف لنجاحه بالمرصاد. وأعني به: ◄ الانقسام التقليدي إزاء «التراث والحداثة» إلى: • تيار متشبث بالتراث كما هو. • وتيار متغرب يدير ظهره للتراث. • وتيارٍ إصلاحي خافت الصوت لا يكاد يبين. وهذا الاختلاف -في حد ذاته- أمر طبيعي، وظاهرة مقبولة، لكنه ليس مقبولًا ولا طبيعيًّا أن يتحول الموقف كله من مواجهة خارجية إلى صراع داخلي يترك الساحة خالية لفرسان أجانب يسحقون الجميع. وقد لاحظنا في تجارب القرن الماضي أن أصحاب التيار الأول كانوا يراهنون على أن بالإمكان العيش في إطار التقليد الضيق الموروث عن السلف، وإيصاد الأبواب في وجه أمواج الحضارة الغربية وثقافتها المتدفقة، غير أنهم ما لبثوا أن تراجعوا دون أن يهيئوا المجتمع للتعامل مع المتغيرات العالمية بأسلوب مدروس؛ وكانت النتيجة أن أصبح المجتمع أعزل أمام ثقافة غربية مكتسحة! والشيء نفسه يمكن أن يقال على »المتغربين «الذين أداروا ظهرهم للتراث، ولم يجدوا في الاستهزاء به والسخرية منه حرجًا ولا حياء، وأعلنوا أن مقاطعة التراث شرطٌ لا مفر منه في حداثة التجديد والإصلاح. وكانت النتيجة أن أدارت الأمة ظهورها لهم بعد ما تبينت أنهم لا يعبرون عن آلامها وآمالها، وأنهم يغردون وحدهم خارج السرب، هؤلاء خسروا المعركة أيضًا، ولم يحلوا مشكلة واحدة من مشكلات المجتمع، إن لم نقل: »زادوا الأمور ظلامًا على ظلام»!. • أما التيار الإصلاحي «الوسطي»: فإننا نحسبه التيار المؤهل لحمل الأمانة، والجدير بمهمة «التجديد» الحقيقي الذي تتطلع إليه الأمة، وهو –وحده - القادر على تجديد الدين بعيدًا عن إلغائه أو تشويهه، ولكن شريطة أن يتفادى الصراع الذي يستنزف طاقته من اليمين ومن اليسار. هذا، ولا بد من إعداد قائمة إحصائية بكبريات القضايا التي تطرح نفسها على الساحة الآن؛ وأرى أن تكون الأولوية للقضايا التي شكلت مبادئ اعتقادية عند جماعات التكفـــير والعنف والإرهاب المسلح، وهي -على ســبيل المثـــال لا الحصر- قضايا: (الجهاد، الخلافة، التكفير، الولاء والبراء، تقسيم المعمورة؛ وغيرها). وأرى أن يكون الاجتهاد في توضيح هذه المسائل اجتهادًا جماعيًّا وليس فرديًّا، فالاجتهاد الفردي فات أوانه، ولم يعد ممكنًا الآن؛ لتعدد الاختصاصات العلمية، وتشابك القضايا بين علوم عدة.