أما عن تصور فلسفة السلام في «الإسلام»، فيمكن عرضها في شكل رسائل يترتب بعضها على بعض ترتيبًا منطقيا. هذه الرسائل هي: الرسالة الأولى: أن القرآن الكريم يقرر حقيقة الاختلاف بين الناس –دينًا، واعتقادًا، ولغةً، ولونًا- وأن إرادة الله شاءت أن يخلق عباده مختلفين، وأن «الاختلاف» هو سنة الله في عباده التي لا تتبدل ولا تزول إلى أن تزول الدنيا وما عليها. يترتب على حقيقة الاختلاف في الدين –منطقيًّا- حق «حرية الاعتقاد»؛ لأن حرية الاعتقاد مع الاختلاف في الدين يمثلان وجهين لعملةٍ واحدة، وحرية الاعتقاد تستلزم -بالضرورة- نفي الإكراه على الدين، والقرآن صريحٌ في تقرير حرية الاعتقاد مع ما يلزمه من نفي الإكراه على العقائد. وحين ننتقل إلى تكييف العلاقة بين المختلفين عقيدةً، والأحرار في اختيار عقائدهم، نجد القرآن صريحًا في تحديد هذه العلاقة بإطارين: الإطار الأول: إطار الحوار، وليس أي حوار، بل هو الحوار الطيب المهذب، وبخاصةٍ إذا كان حوار المسلم مع مسيحي أو يهودي: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: 46]، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]. الإطار الثاني: إطار التعارف الذي يعني: التفاهم والتعاون والتأثير والتأثر ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، ذكرنا الله تعالى في الآية بوحدة الأصل أولًا، ثم ذكرنا بما يناسب هذه الوحدة من صلة التعارف. ومن هنا: يتضح لنا أن القرآن يحدد العلاقة بين الناس في علاقة «التعارف» التي هي نتيجة منطقيةٌ لطبيعة الاختلاف وحرية الاعتقاد. أما الحرب في الإسلام: فهي ضرورة واستثناء؛ يلجأ إليها حين لا يكون منها بد، وهذه هي نصيحة نبي الإسلام: «لا تتمنَّوْا لقاءَ العدوِّ، وسلُوا الله العافيةَ». وليست الحرب في الإسلام هجومية، بل هي حرب دفاعيةٌ، وأول تشريع يبيح للمسلمين إعلان الحرب ورفع السلاح -تشريع معلل بدفع الظلم والدفاع عن المظلومين: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]، ومشروعيَّة الحرب في الإسلام ليست قاصرة على الدفاع عن المساجد فقط، بل مشروعة بالقدر ذاته للدفاع عن الكنائس وعن معابد اليهود. وإن تعجب فاعجب لدينٍ يدفع أبناءه ليقاتلوا من أجل تأمين أهل الأديان الإلهية الأخرى، وتأمين أماكن عباداتهم!! والسؤال الذي يثير حيرة الكثيرين وهو: لماذا قاتل الإسلام غير المسلمين؟ والجواب: لم يقاتلهم –أبدًا- تحت بند «كفار»؛ كيف والقرآن الذي يحمله المسلمون معهم في حروبهم يقول: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29] وكيف يشن الإسلام حربًا من أجل إدخال الآخرين في الدين كرهًا، والقرآن يقرر: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. إن الإسلام لا يقاتل تحت بند «الكفر»، بل تحت بند «العدوان»، وتحت هذا البند لا يبالي القرآن إن كان يقاتل معتدين كفارًا، أو معتدين مؤمنين: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]. هذا التنظير السريع المبنيُّ على نصوص مقدسة شديدة الوضوح تبرهن على أن الإسلام دين سلام وليس دين عدوان. ونقول مرة ثانية: «إن الأديان الإلهية كلها، سواء في هذا التأصيل المحوري لقضية السلام». وتبقى بعد ذلك تساؤلات أختم بها، وهي: إذا كانت نصوص الإسلام -التي ذكرت بعضًا منها- تكشف عن انفتاح هذا الدين على الآخر واحترامه واحترام عقائده، فكيف يصح في الأذهان وصفه بأنه «دين الإرهاب»؟! وإذا قيل: هو دين إرهابٍ؛ لأن الذين يمارسون الإرهاب مسلمون. فهلا يقال: إن المسيحية دين إرهاب؛ لأن الإرهاب مورس باسمها هي الأخرى! وهلا يقال: إن اليهودية دين إرهاب؛ لأن فظائع وبشاعاتٍ ارتكبت باسمها كذلك! وإذا قيل: لا تحاكموا الأديان بجرائم بعض المؤمنين بها. فلماذا لا يقال ذلك على الإسلام؟! ولماذا الإصرار على بقائه أسيرًا في سجن «الإسلاموفوبيا» ظلمًا وبهتانًا وزورًا؟!